عدد المساهمات : 601 تاريخ التسجيل : 17/09/2009 العمر : 34 الموقع : www.matartars.0wn0.com
موضوع: من أين نبدأ؟ احمد الشيخ الثلاثاء أغسطس 31, 2010 12:12 am
يتندر البريطانيون على الإيرلنديين بموقف يقول إن مسافرا سأل إيرلنديا عن الطريق إلى بلدة في إيرلندا, فأجاب الإيرلندي "لو كنت مكانك لما بدأت من هنا, ولكن من هنا نبدأ".
من أين نبدأ؟ ما فتئ هذا السؤال يلح كلما وقف المرء عند حال الأمة, إذ تتناوشها الأمم من حولها, وإذ هي ساهمة واهمة فلا تأخذ الدنيا بالدنيا ولا تأخذ من مقاصد الدين والشريعة ما يبني الأمم ويصون مصالح البلاد والعباد.
كل كتابنا ومفكرينا وحتى عامة الناس ومن هم مطحونون بهمِّ الرغيف, يجيدون تشخيص حال الأمة. الكل يعرف أننا محكومون بأنظمة ناقصة الشرعية لم تصل إلى السدة باختيار شعبي حر وشفاف يضمن لها تفويضا عاما بالحكم. الكل يعرف أن كياناتنا القطرية أخفقت في بلوغ مرحلة الدولة القومية وتجسيد متطلباتها.
والكل يدرك أن تلك الكيانات ميّعت هويتها حين حصرت نفسها في إطارها القطري الضيق, وانسلخت من هويتها الأوسع والأعمق في إطار أمة واحدة, ركناها العروبة والإسلام دينا وثقافة تجمع تحت قبتها من هم من غير المسلمين في وطن واحد.
والكل يعرف -مع غياب التفويض الشعبي لمن يَحكمون- أن الأمة مع أنها صاحبة السلطة ومصدرها في ديار المسلمين, فقدت المرجعية التي تحتكم إليها أوان الشدة وحين تقع الأزمات.
الكل يدرك أن أنظمتنا, مع انتفاء شرعيتها وضياع هويتها وتضييع مرجعيتها، أخفقت إخفاقا مبينا في ميادين التنمية والتعليم وعمارة الأرض وصون مصالح الناس ودرء ما يفسد حياتهم.
" الكل يعرف أننا محكومون بأنظمة ناقصة الشرعية لم تصل إلى السدة باختيار شعبي حر وشفاف يضمن لها تفويضا عاما بالحكم " الكل يدرك أن كياناتنا خسرت حروبها الفاصلة مع عدوها لما خاضتها بجيوشها التقليدية, وأن الأمة صمدت لما قاتل الناس مقاومة في الجزائر وجنوب لبنان وقطاع غزة.
الكل يعرف أن شعوبنا في الوطن الكبير تحنّ إلى أنسام الحرية, إذ تطبق على صدورها صخور الاستبداد والتعتيم والظلم والجور وغياب الفصل بين المال والسياسة. فمن أين نبدأ حتى نتحرر أو نستعيد حريتنا باعتبارها حقا طبيعيا للبشر؟
وإني لأجد نفسي في موضع ذاك الإيرلندي, حائرا أمام ما يشهده المرء من نكوص عربي عن بقية الدنيا في كل الميادين.
فنحن نراوح مكاننا مثل مخلوق مقلوب على ظهره منذ ألف سنة, أسرى ذلك التوق إلى "القائد الرباني" الذي يقود الأمة وتحرسه, كما في أدبيات بعض الجماعات الإسلامية, وإلى عصر الإنجاز وسيادة الدنيا سياسة وعلما وإسهاما في المعرفة الإنسانية.
نعم نحن أسرى ماض ينزع كثير منا عنه صفات البشر ونقائصهم, ويضفي عليه قدسية ربما طويت صفحتها مع خاتمة الرسالة بانتقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ونحن مشلولون في عالم تركنا خلفه عاجزين حتى عن اللهاث للحاق به.
لكن هل يعني ذلك أن باب الأمل في التغيير أوصد ولن تفتح فيه كوة مهما كانت صغيرة ينفذ منها النور؟
فلننظر إلى ما حولنا من أمم: بلدان آسيا ونمورها كما عرفت خرجت مثلنا من تحت نير الاستعمار وتبعاته في القرن العشرين.
الصين -من دون الحديث عن معجزة اليابان المعروفة بداية- وهي الدولة الإمبراطورية المركزية في شرق آسيا منذ آلاف السنين, تنازعتها أطماع الغرب الاستعمارية منذ أواخر القرن الثامن عشر فاحتلت بكين العاصمة, وتقاسمت الشركات والقنصليات الغربية إدارة أجزاء واسعة من البلاد وحولتها إلى سوق مفتوحة للأفيون.
وفي الفترة نفسها, كان مبضع الاستعمار يقسم القوميات والجغرافيا في العالم العربي وفي أفريقيا, فنشأت من العدم عشرات الدول والكيانات القطرية. ومع انقشاع غبار الحرب العالمية الثانية, شهد العالم موجة "استقلالات" للدول الخارجة من مشيمة الاستعمار في أفريقيا وآسيا. وكذلك رفعت الصين في الوقت نفسه تقريبا راية الشيوعيين جمهورية مستقلة بقيادة ماوتسي تونغ إثر انتصاره على القوميين المتحالفين مع الغرب.
فأين الصين اليوم وأين دولنا العربية؟ لماذا نجحت الصين في التنمية بعد الانعتاق من هيمنة الغرب، مع أنها ليست على شاكلة الديمقراطيات الغربية في نظام الحكم والإدارة؟
وقد قصرت الحديث هنا عن التنمية، إذ أصبح النجاح في ميادينها معيار نجاح الدولة في مجملها, بل هي في حقيقة الأمر ركيزة الاستقرار الأولى, وربما غدت في كثير من المجتمعات التي قطعت شوطا نحو الحداثة بمفهومها الاسشرافي, أحد أهم دعائم الهوية القومية ومرتكزات شرعية النظام ومصداقيته.
لقد ظلت الصين على مدى تاريخها الممتد آلاف السنين دولة إمبراطورية مركزية رغم تبدل السلالات وتعاقب الغزاة, ولم تنسلخ من هويتها وثقافتها يوما. وفي أحلك الأوقات, ظلت فلسفة كونفوشيوس الاجتماعية والإنسانية عمودا فقريا يجمع الأطراف اجتماعا وجدانيا وجسمانيا ويضمن لها الاستمرار, تماما كما يفعل النهر الأصفر إذ قامت حوله حضارة الصين وازدهرت.
فمهما استمر الوجود الأجنبي، تجرف فلسفة كونفوشيوس مع تيارات النهر الأصفر كل طارئ، ويبقى الأصيل وقد تعلم واكتسب المعرفة.
أما في العالم العربي وأفريقيا فقد قامت -في الأغلب من العدم وبمشيئة المستعمر الراحل زعماً- كيانات لم تكن من قبل قائمة كدول مستقلة.
" نحن عند مفترق طرق ونريد أن نحدد أيها يقودنا إلى استرداد هويتنا العربية المسلمة دينا لمن هم منا مسلمون، وثقافة لمن هم منا غير ذلك " ولئن استمسكت الصين ونمور آسيا بماضيها الثقافي فحافظت على هويتها, فإن كياناتنا الجديدة لم تهتد -وقد تقوقعت على ذاتها القطرية- إلى ثقافة تعود إليها فتحافظ على هويتها، أو قل تصوغ لنفسها من تلك الثقافة ما يشبه هوية.
فما هي أولويات هوية الفلسطيني؟ أهو فلسطيني أولا أم هو عربي مسلم؟ والأمر نفسه ينطبق على المغربي والسوري والتونسي والأردني.
حتى الكيانات العربية الكبيرة مثل مصر، وجدناها وقد دخلت دهاليز كامب ديفد وسلمت كل الأوراق للبيت الأبيض كما قال أنور السادات يوما.. وجدناها في السبعينيات تتساءل عن هويتها، حيرى بين انتمائها للعروبة والإسلام وبين جذورها الفرعونية, وكأن الإرث الإسلامي العربي غاب ولم يعد النيل يقوم بما يقوم به النهر الأصفر من صيرورة تجمع البلاد والعباد على مصلحة مشتركة تجسد هوية واحدة.
وحين تغيب الهوية أو تتيه في الضباب كيف لمن يفتقدها أن يهتدي؟ وكيف لكياناتنا أن تحدد أولوياتها وأهدافها ومنهجها في التعامل مع الجوار ومع العالم وهي لا تعرف إن كانت قطريتها أولا أو قوميتها أو دينها أولا؟ وكيف لأي منها أن يختط لنفسه سياسة تنموية, وهو يجهل أن المحيط الحيوي الذي يؤمّن نجاح أي تنمية, هو هذا العالم العربي الممتد من تخوم جزيرة العرب على المحيط الهندي إلى تخوم الشمال الأفريقي على المحيط الأطلسي, متصلا بجواره المسلم وعلاقاته مع العالم أجمع؟
وكيف يستطيع الإنسان العربي أن يتلمس الطريق إلى التحرر ويشعر بعزة نفس ترفض الدنية, وقد انسلخ من جذوره الثقافية وطمست هويته الأوسع والأعمق, مقابل انتماء مصطنع لكيان أو كيانات أثبتت السنون والأحداث منذ سايكس بيكو وحتى اليوم, أنها أعجز من أن تنجح في حرب أو سلم؟
إذن فنحن عند مفترق طرق ونريد أن نحدد أيها يقودنا إلى استرداد هويتنا العربية المسلمة دينا لمن هم منا مسلمون، وثقافة لمن هم منا غير ذلك.
وكل من يخوض في هذا الموضوع سيجد نفسه في مثل موضع ذلك الإيرلندي الذي بدأنا به المقال "لو كنت مكانك لما بدأت من هنا, ولكن من هنا نبدأ".
أنبدأ من طريق التعليم؟ وهل يمكن أن يجود علينا الزمان بولي أمر في أحد كياناتنا -وخاصة الكبيرة منها- يعي أن نهضة الأمم وتحررها تبدأ من مقعد الدراسة؟
أنا لا أتحدث هنا عن سياسة "تغريب" التعليم التي باتت تنتشر في كثير من أقطارنا عبر مدارس خاصة تتبنى مناهج غربية, بحجة تعزيز إتقان التلاميذ للغة الإنجليزية وتخرج لنا أجيالا لا تدري أين موقعها في العالم ولا تحيط بهويتها علما.
نريد تعليما بلغتنا يهضم أساليب العصر ومبتكراته ويشدد في الوقت ذاته على هويتنا العربية المسلمة. أفلا يعلم المتحمسون لفكرة "تغريب" التعليم باللغة الإنجليزية أن من يفوزون بمسابقة أولمبياد الرياضيات, هم في الغالب أولئك الآسيويون اليابانيون والكوريون والصينيون الذي يدرسون الرياضيات بلغتهم الأم؟
نريد تعليما يأخذ بآخر ما في مناهج البحث الاستقرائي والعلمي, ويعزز في الوقت نفسه معرفة الطالب بهذا المحيط الحيوي العربي من أقصى الوطن إلى أقصاه.
لقد كانوا يقولون لنا -نحن الذين تتلمذنا وفق المناهج الدراسية القديمة في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات- إنها مناهج تلقينية لا تستعمل مناهج البحث العلمي الصحيحة، لكن أليست هي التي تخرج عليها كل أولئك الذين قادوا حركات التحرر في الوطن العربي منذ أن قسمته من غربه إلى شرقه اتفاقيات سايكس بيكو وآلة الاستعمار الغربي؟
" نريد تعليما بلغتنا يهضم أساليب العصر ومبتكراته ويشدد في الوقت ذاته على هويتنا العربية المسلمة " ومع ذلك فهذه المناهج هي نفسها التي خرجت علماء عربا يتبوؤون اليوم مراكز علمية مرموقة في الغرب وجامعاته, ممن هم من قامة أحمد زويل وغيره.
نعم المناهج مهمة جدا في سياق العملية التعليمية, لكن ما من منهج يستطيع أن يرتقي بالنشء ما لم تكن الحاضنة الاجتماعية راشدة ومؤمنة بأهمية التحرر والتطور, وواعية بشخصيتها ومدركة لهويتها وأهدافها وأولوياتها.
وفي ضوء ما استجد في عصرنا من وسائل اتصال وتأثير جماهيري, فإن الإعلام يضطلع اليوم بدور شديد الأهمية في صياغة الهوية وتكريسها وترسيخها. فهل يقوم إعلامنا العربي اليوم بهذا الدور؟ أم هو في معظم الأحيان معول يهدم الهوية العربية الجامعة بدلا من أن يعزز جذورها, اللهم إلا بضع مؤسسات وقنوات تكاد تنجرف أمام طوفان الزبد الممول من أصحاب المال والسلطة.
وحين يشاهد المرء ما تتقيأ به الفضائيات الرخيصة والقنوات المبرمجة لمناجزة وإجهاض أي فكر وحدوي قومي عربي أو إسلامي, يدرك أن هويتنا هي الهدف الأول.
فكيف لجيل يمضي جل يومه يتراقص كالدببة مع مغريات الفيديو كليب، أن يؤمن بوحدة الأمة ويعمل من أجل استعادة حرية صادرها الاستعمار من قبل, وتصادرها حكومات جائرة في كثير من أقطارنا؟
أما دور العلماء وفقهاء الدين فقد كانوا كلما جار السلطان أو أصاب الأمة خطب أو هاجمها عدو، غدوا الركيزة الأساس في المقاومة والتعبئة.
رحم الله ابن حنبل إذ سجن وأبى أن يحابي السلطان بالتنازل عن رأيه، ورحم الله أبا حامد الغزالي الذي رسخ للأمة في كتابه العظيم "إحياء علوم الدين" قاعدة للمقاومة وهيأها كي تذود عن حريتها المهددة من غزاة يأتون مرة من الغرب وأخرى من الشرق.
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حين كان داعية التحرر والجهاد، وحين وقف خطيبا يحرض الناس قبل معركة الحوقب ضد المغول يؤكد لهم أن النصر قادم, فطالبه أمير دمشق الذي هزم في معركة سابقة بأن يقول إن شاء الله, فقال الشيخ المجاهد "أقولها تحقيقا لا تعليقا".
ورحم الله العز بن عبد السلام إذ حرض المصريين وحشدهم فكسروا شوكة الغزاة في عين جالوت الفاصلة.
فهل لنا اليوم من أمثال هؤلاء من يرسخون فقه الحرية والتحرر وتداول السلطة -رضي أصحاب السلطة أم أبوا- حتى نتحرر أفرادا ومجتمعات ونستعيد هويتنا الجامعة